ثقافة
أخر الأخبار

كرسي الحديقة قصه قصيره بقلم الكاتب جلال ابودربالة المغربي

قصة قصيره بقلم الكاتب الليبى جلال ابودربالة المغربي

#كرسي_الحديقة

كالعادة يمتطون درَّاجاتهم صباحاً ليمرحوا بين أشجار الحديقة، تمكّن منهم التّعب فاتخذوا من أحد المقاعد مجلسا، لفتت انتباههم تلك الجريدة الموضوعة فوقه.

إلتقطها أحدهم و صار يتصفّح.. يقرأ.. يشاهد.. و هم يمدّون رؤوسهم عن جانبي رأسه يتزاحمون، كاد أن يقلب الصفحة عندما أوقفه أحدهم قائلاً باستغرابٍ قوس حاجبيه.. أجحظ عينيه.. وفغر فاه: أنظر!.

تمعَّنت عيونهم في تلك المقالة، علا صوته قارءاً: بيت لم يدخله احد إلاّ اختفى يقع في وسط بلدة مهجورة، مازال يكمل القراءة، أوقفه الآخر، أشار بإصبعه لتلك الخريطة التي تدل عليه.

رفع رأسه.. طوى الصحيفة.. و التفت يمينه، هزّ رأسه فابتسم له صاحبه قبل أن يديره للجِّهة الأخرى لتلتقي عيناه برفيقه، ثم قال أحدهم بحماس: هل تفكرون فيما أفكر؟
قالوا: نعم
الآن.. هذا ما أتبع
وقفوا.. ركبوها.. و انطلقوا، ساروا يتبعون الخريطة، دخلوا الغابة الشمالية، مخضرّة.. وارِفة.. عبروا من خلالها بأرجل تضغط الدوَّسات بقوة، حتى بلغوا طرفها، توقفوا ينظرون حولهم، تبدَّل الأمر كله، أشجار جفّت.. شمس سطعت.. و أوراق تذروها الرياح، واصلوا مسيرهم، ليس هناك سوى حفيف الأشجار مع صوت العجالات التي تحطم تلك الأوراق اليابسة.
وجدوا طريقاً معبّد مليئاً بالحفر.. متشقق.. متصدِّع.. اتّبعوه حتى أوصلهم إلى القرية.

فارغة.. صامتة.. و خالية على عروشها، بيوت مصطفّة.. متلاصقة كأنها خرز مِسبحة، جابوا الشوارع باحثين عنه، ظهر عليهم بإختلافه الكلّي عن باقي المنازل و انفراده بمكان متطرِّف بأسفل منحدر.

دنوا منه، نوافذ مغلقة بألواح متقاطعة، تحيطه الحشائش، رُكنت سيارة بجانبه، عجلاتها فارغة من الهواء، احتضنت الإسفلت، نبتت أعشاب حولها، إعتلاها الصدأ، الغبار جثا عليها، اقترب ذلك الجريء منها، بينما كانوا أصدقاءه ينظرون إليه، مسح زجاجها الجانبي و استرق النظر للداخل، لازال المفتاح في المُشْعِل، رفع مَسْكَة الباب فانفتح، سرعان ما تلاشت الشجاعة من قلوبهم لكن حب الإطلاع جعلهم لا يكترثوا لأمرها كثيراً.

ابتعد عنها، توجهوا نحو المنزل، قوّس يديه قرب إحدى النوافذ واضعاً وجهه بينهما محاولاً النظر إلى داخله لكن بلا جدوى، فقد كان مظلماً، اتجهوا إلى الباب بخطوات متردِّدة يتبع كل منهما الآخر، درجاته بالية.. طلاءه قديم.. و خيوط عنكبوت على قبضته، مدّ يده إليها أدارها.. دفعه للداخل، أصدر أزيزاً متقطعاً، وجدت كتلة الضوء سبيلها إلى ظلمته، ظلوا واقفين لهنيهة.. نظرهم يسبقهم يتخلّل تلك العتمة، دخل الواحد تلوى الآخر، لم يتجاوزوه إلاّ بخطوات معدودة، رسم الضوء ظل ثلاثتهم، سرحت عقولهم في تأمُّله، لكن دون انتباه انصفق الباب خلفهم فهبَّت عقولهم و أجسادهم بفزعٍ شديد، أصبح المكان شبه مظلم غير أن قليلاً من خيوط الضوء تخلّلت ألواح النوافذ، صار يتلمّس الجدار باحثاً عن مفتاح ليشعله، ها قد وجده، ضغط عليه فأنار المكان، فغرت الأفواه لما أمامهم، مرتّب. نظيف، ضحك سامح بصوت عالٍ قبل أن يقول مستهزءاً و هو يسير نحو الأريكة: سنبيت ليلتنا هنا اليوم، أهذا البيت من يدخله لا يخرج منه؟!.. سوف نخرج…..

قاطعه علي: أليس هذا غريباً؟!
ارتمى فوقها ثم سأل: ما الغريب؟
– مقبض الباب من الخارج عليه شبكة عنكبوت.. كأنه لم يفتح لزمنٍ ليس بالقريب، فكيف بالبيت بهذا الوضع من الداخل.

– نعم لاحظت ذلك أيضاً، هذا ما ردّ عليه خالد ثم أردف: أنظر إلى هذا لبيانو إنه……
كبح لسانه وميض الضوء، يتدبدب.. يرمش.. و انطفأ، ساد السكوت، اشتعل من جديد، هبّ قائماً عن الكنبة.. تراجع صديقاه للخلف، دبّ الرعب في أنفسهم.. تسارعت دقات قلوبهم.. اضطربت أنفاسهم، لتبدل حال البيت.. دماء.. أوساخ.. و رائحة نتنة، وضعوا أكفهم على أنوفهم، جاء إليهم صوت طفل يطرق آذانهم المشرعة على مصراعيها بضحكات ساخرة، إلى أن مرّ من أمامهم، خرج من باب إحدى الحجر و ولج إلى الحجرة المقابلة.

اختلّت الأنفاس.. ارتفعت النبضات.. و بلغت القلوب الحناجر، ضلّو متقاربين، تراجعوا نحو الباب، أمسك خالد مقبضه ليفتحه، فانتزعت منه، حاول كلاً منهم فتحه لكن دون فائدة، قال سامح بحزم يجب أن نجد مخرجاً من هنا.

توجهوا إلى تلك الغرفة، كانت مظلمة.. موحشة.. فزع بداخلها، بابها مفتوح و الضوء لم يتجاوز عتبتها، لا شيء يُرى بداخلها سوى الدّجنة، وَجَل مختلط بالحيرة طفح على وجوههم، تقدّم سامح واضعاً قدمه بالداخل، تجاوز خط الضوء في الأسفل، خرج منه شعر أسود، إلتفّ حول قدمه، سحبه للداخل، صاح بصوت عال: ماهذا؟!..

سقط أرضاً، أمسكاه من ذراعيه لكي لا ينجذب، تمسّكوا به، صراخه يعلو بألم، عندما غاب نصفه في العتمة، لا أحد يعلم ما الذي يحدث له.
باغتهم وجه امرأة عجوز ظهر على وجه سامح، تجاعيده مترهِّلة، أسنانها متساقطة و تكسرت زوايا الأخرى، عيناها ذابلة حادّة، فتحت فمها بقوة، فأفلتوا يديه ذعراً جالسين، إختفى سامح، لكن صوته مازال مسموع، حتى خفت كأنه سقط في غيابة جب.

اجتاحتهم حالة من الإنفعالات.. خالد يمسح وجهه، متمتماً بكلمات لا تسمع، طرفه يرتد إليه كثيراً، أما علي أظافره تكاد أن تجرح فروة رأسه فركاً، مغمض العينين، فقد خرجت أنفسهم عن المألوف.
ظلوا على هذا الحال لدقائق حتى استجمعوا قواهم، إستعادوا توازنهم، قرروا عدم الإستسلام لإيجاد مخرج، فانطفأ النور مرةً أخرى، أحسوا بخوف شديد، قال خالد: مالعمل يا علي؟

– يجب أن نشعل الضوء، علينا بكسر النوافذ، عادت الإنارة مرة أخرى ذهبوا مسرعين إلى النوافذ فتحوا ستائرها.. حطموا زجاجها، لكن الظلام في الخارج أيضا.

كيف مرّ الوقت بهذه السرعة.. أيعقل هذا؟!!!. قالها علي بتفكير يتغلغل في ثنايا دماغه.
إلتفت إلى خالد فلم يجده، بدا ينادي خالد أين أنت، أين ذهبت أتى صوته يشق الجدران ساعدني انا هنا، إستدار حوله ليراه خارج المنزل، وضع رجله على حافة النافذة ليخرج له، لكنه لم يستطع كأن زجاجاً غير الذي حطمه يمنعه، ظل يحاول قائلاً: أنا قادم.
توقف خالد عن الحراك، بشرته تجف، عيناه تتحجّر.. صار جسمه يتحول إلى ذرات غبار تحمله الرّياح بعيداً، انهار علي عاد للخلف إلى أن أو قفه الباب، نزل للأسفل، جلس القرفصاء، متكئاً عليه، وضع رأسه بين يديه و أطرق دون حراك.

أتى إليه يكلمه بصوت منخفض.. يسأله: لماذا أتيتم إلى هنا؟
رفع رأسه، كان طفلاً أجوف العينين أجدع، أمهق..
تحجرشت روحه في صدره عندما رآه، لم يقوى على تحريك لسانه، شعر بشيء يخرج من عينيه.. أذنيه.. أنفه.. و أنامله، رفعها لتقابله، وجدها حمراء، صارت ترتعش، تقطر دماً، أصبح يزفر بشدة.. بتواصل، شيء ما يمتص داخله، إختفت عيناه.. محاجر فارغة، وقع على جانبه، تسلل دمه من تحت ذلك الباب، إنساب على الدرجات قبل أن يجف أرضاً.

☆☆☆☆

جاء يمشي في تؤدة، معطفه الغربيب يضم جسده.. ياقته قائمة.. قفّازه الأسود يلف يديه.. و اللّبادة الدائرية تغطي رأسه.

اقترب من كرسي الحديقة، نظر حوله، تأكد من خلو المكان، جلس فوقه، ولجت يده في جيبه، أخرج جريدة صفحاتها طويت، وضعها فوقه ثم غادر بنفس الهدوء الذي أتى به.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!