من حكاية المال و العيال- (الحلقة الخامســــة).
كان يُصغي باهتمام لأحاديث مُجالسيه، في تلك الأماسي الفخمة، مُداعباً أنفه باستمرار كأنهُ يهم بتنظيفه، راسماً ابتسامة ثابتة، مدعُومة بتلك النظرات التي تخترق جماجم الندماء، ذوي الرؤوس التي تحيط بها العمائم في شكل (لولبي صاعد لأعلى)، والتي كانت تُمثل -أي العمائم والجلاليب- تقريباً، الذي الرسمي لتلك الجلسات… ومن تلك الأحاديث، محل انتباهه، كان يستقي (الأخبار!) ويستنبط (الأفكــــارَ الدارّة للدخل!) كما ذكرنا آنفاً…
وفي حالات معدُودة، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أصابه الفشل في تطبيقه لأفكار الأماسي: منها، على سبيل المثال، تلك المُغامرة، حين قرر إقامة حفل ليلي، تجاري وساهِر، إبان إحدى موجات جفاف ينابيعه الماليّة السخيّة، فباع المُحتالون، فيها:(صور التذاكر)، بدلاً عن التذاكر الأصلية، أمام القاعة التي احتضنت الحفل الكبير.
ورغم الحُشُود، التي أسالت لعابه، ومنَّت نفسه بربحٍ وفير، قبيل بدء الحفل، إلا أن حصاده في الأخير كان: سالباً! وخسارته كانت مشهودة تبعث على الرثاء…
ولبسته، بموجب تلك الخسارة، الناشئة من تزوير المحتالين لتذاكر الحفل، لبستهُ: ديونٌ كانت عصيّة على الدفع لفترة، وشهدت تلك الفترة انفضاضاً مؤقتاً لأماسيه، ورجع، هُوَ، مُتلصصاً لأصدقاء: (الزمن الباهي!)، متفادياً: (الوحدة!)، في دماس الليالي العابسة… وما خذله الأصحاب، و لم يخيِّبوا ظنه… فرحبوا به، و وقفوا معه، وشدّوا من أزره، حتى: هبَّ من (كبوتِهِ!)…
ولكنه، بعد التعافي: رجع مرّة أخرى، بأوجهه الثلاثة، يرُش الحديقة ويرُصَّ الكراسي … ويقزْقِزْ ( رِّيَشْ الكُستُليتة!)، مُلعلعاً، و شَافِطاً بحلقوالجداوِلْ.
الفترة التي شهدت ازدهار تجارته بالإغاثة، شهدت إنجازات أخرى كثيرة، أيضاً: كان أهمّها صيانته للبيت الكبير، إذ قام بترميم حوائِط الطِّين وتبييضها، ودهانها بالألوان المُزركشة، الفاقعة، وقام بتغيير جــــــــذري لنوع الأدبخانات* من (أبوحُفرة) إلى الحمَّامات الإفرنجيّة، كما أزال الحظائر البلديّة التي كانت تحوى: بهائم، وطيور داجنة… ودفن جُحُور الأرانب، بالإضافة لتجفيفهِ بركةً، صغيرةً، كانت مُخصصة: للبط والإوز البرِّي في الفناء، لتحلُّ محلها: فازات للزهور الموسميّة وغير الموسميّة…
وأنشأ ممرًّا سُندسيًّا، يُفضي، إلى: جوفِ الدار.
وحرَصَ، على أن تشتمل الحديقة على: شتول متنوعة أو من كل بستانٍ على زهرة، كانت أبهاها، على الإطلاق، زهرة السوسن، التي زيّنت حديقة العهد الجديد، وجمّلتها، مما دفعه لحفظ الأغنيّة الشهيرة، التي تمجد تلك الزهرة، فحفظها -الأغنية – عن ظهر قلب…لتصــــــير: (يا زهرة السوسن**! (، إحدى مطلوبات، ومُكونات جلسات الأماسي: ليس في البيت الكبير وحده، حيثُ تستقر الزهرة البهيّة، وسط الزهور الأخرى: مُزدحمة الألوان، وإنما في حديقة بيت أسرة زوجته المُطل على ملتقى النيلين…
والتي اشتملت، هي الأُخرى، على شتلة يانعة من تلك الوردة الغنائية الساحرة!
كانت معرفته بالزهور قبل حديقة العهد الجديد، تنحصر سماعيّاً: بالفُـــلّ والياسمين، ولكنه حين أراد إنشاء الحديقة أوّل مرة، توسّعت تلك المعــــــرفة-بالزهور- لتشمل أنواعًا لم يسمع بها، حتّى ندماؤه ومجالسوه، من قبل… ودفعه حبُهُل وعشقُهُ الجديد الخُرافي للزهور- الذي وصل حد الانبهار- للزيارة (المنتظمة!)، لمعرض الزهور السنوي، الذي يُقام في الحديقة النباتيّة المركزيّة…
وصارت، بعد زمن وجيز حليفته بالطلاق: أقل شأنًا من حليفته بزهرته الأثيرة: حين يضع العمامة وحيثُ يمسح شعر رأسه إلى الوراء، متأوّهًا بسعادة:
– وحياتْ (زهرة السوسن!) دي…
مشيراً لفازتها بسبابته، وكان لو استطاع، دون شتارة، لأشار إليها ببنصره الذي تحيط به دبلة الزواج، أمام رهط الأيامى، الذين يؤمُون: (مائدته الناضِحة!).
ورَغمَ أن حليفته بالطلاق قد تراجعت، بعد الزهرة، إلا أنه اضطر لإطلاقِها، ذات مرّة، إثر نشُوب خلاف دامٍ، بينه وبين (هُيامْ): زوجته… والتي فاجأته، بدورها، بحليفةٍ مُضادة:
– والله! يا أنا… يا ناسك ديل في البيت ده… يا (سيف اليزل!).
ولمّا كانت الصفقات، مُتورِّمة، وشهيّة، وإنّ قطافها قد: حان… في الفترة التي أطلقت فيها هُيام حليفتها المُضادة الحمقاء تلك، وأمام إصرارها الذي أيدته مؤازرة أسريّةٌ واسعة، كان أبرز روّادها: الخال و (عمتها) ذات المجد التليد، التي تجيد طهي (الرِّيش)، لم يجد (سيف)، مفرّاً، سوى أن يطلقها… وهو آسف بحق!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأدبَخانة: بيت الأدب، البلدي.
**أغنية حقيبة شهيرة.