ثقافة
أخر الأخبار

سفر العمر قصة قصيرة للكاتب عادل سيد أحمد من السودان

قصة قصيرة

سَفَرُ العُمُرْ- من مجموعة أزاميل الزمن القصصية
اللوحة بريشة الفنان التشكيلي/ مهدي الهاشمي…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى
وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ
تَفْرِيِجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ…
وَعِلْمٌ ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ
فإن قيلَ في الأَسفـارِ ذُلٌّ ومِحْنَـةٌ
وَقَطْعُ الفيافي وارتكـاب الشَّدائِـدِ
فَمَوْتُ الفتـى خيْـرٌ له مِنْ قِيامِـهِ
بِدَارِ هَـوَانٍ بيـن واشٍ وَحَاسِـدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يكُن طارقٌ ضِمن المُودعين، الذين احتشدوا في دارِنا، وأكملَ بعضُهم الجميل بمرافقتي للمطار، ولكن ذلك لم يكُن الأهم… فقد افتقدته أكثر في الليلةِ السابقةِ للسفر، تلك الليلة، وذاك السمر، الذي كنتُ سأُشرِّح فيه خواطري، حوْل كُل شيء: السفر والغربة ومفارقة الديار…. وأُوصي طارقاً الوصايا الأخيرة: ضَرُورة الانضباط في التعامل مع مصاريف الوالد التي أؤمل في إرسالها: أرتالاً، من هناك… علاج أمي… دراسة أحمد… تهدئة الخطيبة وتطمينها على الدوام، وإلى أن أستطيع الباءة…فأتزوجها…
وفوقَ كل شيء، كان يهمُني ان تستمر لمَّةُ الأصدقاء: غيظاً للعدُو ومسرّةً للأعزاء…
ولكن طارقاً: لم يأتِ!
ولم يكُن في الأمر لوم، ولكنه كان عشمًا، وأمنيةً، ضاعت بالطريقة نفسها التي تضيعُ بها الأشياءُ، دون حكمةٍ واضحةٍ ومهضومة، في بلادِي… سنا الفجر!
وقد كان كل ما استطعت عملهُ، هُو: ترك الرسالة القصيرة الطويلة، التي أرسلت فيها ما يُشبه البرقيات ورؤوس المواضِيع لطارق، تلك الورقة التي حملت الوصايا الأخيرة… تاركاًإيِّاها له مع شقيقي الصغير: أحمد!
ولكني تحدثتُ مع طارق، مرّة أخرى، واحدة في الخيال، عندما طالبوني برسوم المغادرة في المطار… كوميديا أخيرة في بوابة الخُرُوج، لم أكُن مُتحسِّباً لها:
خمسة وتلاتين جنيه؟
ورآني أحد المسافرين وأنا في تلك الحالة من الارتباك، والانزعاج، فحادث الموظف دون أن يستأذنني:
دي الرسوم بتاعتي وبتاعة الأستاذ ده!
لم أرد عليه بكلمة، وإنما حملت عيناي نظرةَ امتنان عميق، بادلها هو بابتسامة مُشجِّعة، كانتالزاد الأخير من خير بلادي، لزمن.
وجدتني أضحك، وأنا أحادثُ طيفَ طارقٍ عن رسوم المُغادرة، تلك الأضحوكة صنيعة الحكومة الجحمان! وعن إنسان بلادي، وعن رغبتي أن أعود إلى البيت والآن…
وضحك طارق، في خيالي، مليئاً… بحيثُ أنساني ضحكُهُ المُعافى: غيابه الراهن عن وداعي في المطار… ومساحته الخالية ليلة الأمس، تلك الليلة ذات الامتدادات الودُودة، واللقاءات الجانبيّة والقفشات على هامش الاحتفال…الثرّة، اللذيذة… أو التي هي: بطعم العسل!
كانت رسالة طارق الأُولى في منفاي، والتي تلاها سيلٌ هطالٌ من الرسائل، تركَّزت على أمرين: الاعتذار عن غيابه في وداعي، والأخبار الخاصَّة بصحة أمِّيْ أو (نقطة ضعفي!) … كما كان يحلو له، وكما كان يُشير لها ساخراً.
وقرأت الرسالة بنهم والتهمتها التهاماً…رغم إني قد مررتُ على الاعتذار، من حيث الجوهَر، مُرُور الكرام، إلَّا أن التعابير التي صيغ بها أعجبتني… إيهِ……أين أنت يا صديقي؟؟؟
وقرأتُ بتمهُّل، وأعدتُ، عشرات المرَّات: قراءة فقرات الرسالة التي تحدَّثت عن مرض أُمِّي… ولطفتها، فلم أهدأ… بحيثُ وجدتني أحاول أن أقرأ أمام، وما بين السطور وظلالها… وعلى العُموم، فقد أصابني هذا الجزءُ بكآبة لازمتني ودامت معي لأيَّام، وأرتني حجم ما قد ضحيت به وتنازلتُ عنهُ، وأناأغادر السُّودان: في رحلة طويلة مع الأيام …
ومن خلال تلك الظلال من الكآبة، تراءت لينفسي: هارباً من أتُون معركة الحياة في بلادي، تاركاً أحبابي يقاسون: ما هُو معرُوف عند جميع خلق الله!
وبخلاف رسائل طارق، المشبَّعة برائحة الأهل، كنتُ أجد مُتنفساً في جلسَات ولمَّـــــات نهاية الأسبوع: المحضُورة من رفاقي المهجَّرين، وقد كانت، تلك الأماسي، تضّجُ بنكهةٍ قريبة من الجلسات (الأصل!) في بلدنا… وتتفوّق عليها من حيثُ زحمة المأكولات وتنوع المشروبات… ورواقة بال وصفاء أذهان الحاضرين في أغلب الأحوال، لا يوتِّرها قطع إمداد الكهرباء… ولا تطوف عليها جيوش البعوض والناموس! …
ومع ذلك كانت تنقصها ميزة، لا يُمكن تحديدها بالكلمات، ولعل أبلغ ما قيل هنا، أنه تنقُصُها:
دوامات غُبارِ الخُرطوم، ورائحةُ عرقِ الأصدقاء…
وأضيف أنا: (وتأوهاتُهم من أوجاع الحياة القاحلة والضغوط العالية، تلك التأوهات التي تشبه تأوهات المصارعين، وهم يتلوُون مِنْ ألمِ السُّقوطِ فوق خشبة حلبة الصراع!).
وبدأت جلسات أماسي المهاجرين تفقد بريقها عندي، وحلت محلَّها واجبات، سمجة، في التحضير لأنشطة الأسبوع القادم، وذلك بعد أن حصلت على عمل… وبات وقتي أغلى من لؤلؤةٍ بضّة!
وصرتُ أُفضلُ القراءةَ… وتدوين الخواطر، أو التسوُّق: بدلاً عن مُشاطرة رفاقي جلساتهم، ولمحتُ في نفسي ميلاً انطوائيًا دخيلًا… وعززه سَكني القصْي عن الأحباب، والذي لا يجاورني، من بني لساني، فيه أحد!
مع خطابات طارق، كانت تجيءُ، أحياناً، رسائل من أحمد، بعاطفتها الجيّاشة وقصور رؤيتها وركاكة اللغة، مدعَّمة بصور من بيتنا وناس بيتنا… ولم أكن أستطع تمالك نفسي إزائها متأرجحاً بين البكاءِ والضحك… كانت عفويته تقفز من ثنايا الكلمات ومن بين السطور… وقد لاحظت أن همته كانت تطَّرد، وإمكاناته في تطورٍ مستمر… وكنت أقهقهه حين يشير لزيارات أصدقائي، حرّاس العقاب، لنا في البيت، إذ كان يكتُب عنهم بنديّة، تشي: بأنه ورث تلك الصداقات، أو …هُو، على الأقل، في طريقه إلى: وراثتها!
كانت الرسائل إذن، بوتائرِ ورودِها العالي، ومحتواها الإخباري الدسم، هي حبل السر بيني وبين أهلي والديار…
كانت المكالمات التليفونية نادرة وتتم في الضرورات، حينما يكون في الأمر عجالة أو حينماتحتاج المناقشة لأخذ ورد… ما عدا الاتصالات المتقطعة من فينة لأخرى والتي كان يطيبُ لي فيها سماع أهلاً من الوالد والوالدة… وكانت تلك المكالمات تتم، إمّا بمبادرة مني أو طلب منهم…
وفي الليالي التي كانت تعقب تلك المكالمات، كنتُ أحرصُ أن أنتعش بحمّامٍ دافيء وأحلق ذقني وأتعطَّر… لأسمع موسيقى وأغنيات من بلادي… أو في أحوالٍ نادرة ألوذ بالانضمام إلى أماسي نظرائي المهاجرين… وكنت أجيدُ، ولا أزال، التغني بأغنيّة الموسيقار (مصطفى سيد أحمد)، سفر العمر:
ما بان عليك سفر العمر
لسة الربيع يا دابو زار
لسة الضفاف المترعة
بتفيض ندى وتطرح ثمار!
ودرج، جميع المهجّرين، على أن يطلبوا مني الترنم بالأغنيّة، في ختام الأماسي التي أحضرها معهم… وكنت بدوري أنتظر نصف طلب أو مجرّد تلميح، لأصدح رافعًا عقيرتي بالغناء!
وفي الصباح، عندما أفيق، وينقشع عنِّي ضبابُ السهر، تراني أبدأ الاستعداد للذهابِ إلى العمل! … ولكِن، بتكاسُلٍ شديد.
لقد عنت لي فُرصي الأولى في العمل: إهانةً وتبخيسًا ليس بعدهما هوان، لأن المِهن التي أُتيحت لي في السنتين والخمسة أشهر الأُولى من الهِجْرَة، كانت مِهن هامشيّة (عامل نظافة)، وكنتُ بخلاف الشُّعورِ بالإهانة، أشعر بالتعب فيأقصى درجات تأثيره في نهاية كلِّ يوم… وذلك لطبيعته البدنيّة، والتي لا تُلائم طريقة حياتي السابقة، الرخوة: بأكملها! …
ولكِن، يبدو أن ذلك الإنهاك كان أفضل… وفيه خير، لأن انهماكي في العمل قلَّل، من حيثُ لا أدري، وبشكلٍ كبير، فُرص التفكير والتهويم، الذيلا بُد وأن يكون سوداوياً في بلاد الجليد الأبيض، والبرد المتناثر هبوطاً من السماء…
أما شهاداتي الجامعيّة، وفوق الجامعيّة…الموثّقة، فقد كانت مذخُورة لليوم الذي أستطيع فيهِ التغلغل بها في عالمٍ قاسٍ، يضج بالمُنافسة الشرسة وتسوده القيم الربحيّة التي تستبطن فيما تستطبن: عُنصريّة بغيضة أيضاً، وقد عملت بجهدٍ خرافي في أول سنتين، وولاء كامل للهدف النهائي لعملي: ألا وهو: نظافةُ المرافق العامـــــَّة! … ولكن رغم ذلك كانت المغايص تكاد أن تشطُر فُؤادي لنِصفين!
وكانت هُنالك بعض الأخبار التي تعمل على المزيد من الجز والتقطيع لنصفي فؤادي المُنشطِر، ترد في طيّات الرسائل وتتخلل المكالمات، وكان طارق يحرص أن تكون تلك الأخبار وما شاكلها ضمن رسائل أحمد، وليس في متون خطاباته هو… وكان أقسى تلك الأخبار على نفسي: موت الشباب من أصدقائي ومعارفي والأهل… التي كانت تنزل عليَّ نزول الصاعقة وتجعلني، لزمن طويل يلي نزولها، تجعلني كالمجنون. وقد كان أسوأ تلك الأخبار، فعلاً، رحيل أسرة بروف سيد أحمد عبد القادر، في حادث حركة، قبايل عيد، في طريق شريان الشمال… وحادث وفاةابن عمتي خالد الذي ابتلعه النيل في رمضان… ومع أني لم أعلم بوفاة (خالدٍ) إلا بعد أكثر من شهرين من وقوعها… إلا أن وقع الخبر عليَّ كان استثنائيّا…
وبخلاف أخبار الموت والمرض، فقد أنهت محادثة تلفونيّة علاقتي بسوسن، كان ذلك ما توقعته وأنا أجرجر خطاي نحو صالة المُغادرة، وعملت على عدم حدوثه… ولكن، يبدو أن:
البعيد عن العين، بعيد عن القلب… فعلاً!
فقد كان منطقها قويًّا ولهجتها مُهذبةً، وهي تتلُو القرار التقريري، القاضي: بفض الخطوبة كتحصيل حاصل… وإعلان حالة باتت معلومة للجميع، على مسامعي.
وشربتُ في تلك الليلة ولأول مرّة: لوحدي، نادمتُ نفسي! …
وبدأتُ منذ تلك المُحادثة أمّيل إلى الشراب منفرداً… ولا أملُّه… وامتلأت منذ ذلك اليوم ثلاجتي بصنوفٍ من الخُمُور، كانت تعزيني: نعم! … ولكنَّها كانت، على المدى الطوِيل، تتأبط بي شرّاً!
وتأخَّر زواجي، في بلادٍ لا تكتسي فيها المؤسسة الزوجيّة نفس القدسيّة والمكانة السامقة عندنا… بلادٌ يُضاجِع فيها كلُّ شيءٍ كلَّ شيءْ! … وذلك رغم إلحاح أُمِّي في المُكالمات أو عبر رسائل أحمد وطارق، ذلك الإلحاح الذي لامس التوسُّل والاستجداء:
إن شاء الله: خواجيَّة، أحضر جديدك وأشوف وليدك! يا جناي…
بيد أنَّها فارقت الحياة، دون أن يتحقَّق لها ذلك، ودون أن يتسنى لي الاعتذار وتوضيح الأمُور لها: وجهاً لوجه.
وتشظى قلبي، هذه المرّة، وتفتَّت الى أجزاءٍ صغيرة… لا يحتمِل أي جُزءٍ منها: مُرُور النسيم!
وأحسستُ بحاجةٍ ماسّةٍ لمعانقةِ تُرابِ الوَطَنْ، التراب الذي احتضن جسد أمي وسيأويه إلى يوم يبعثون، ومقابلةالأهل، إذ لم يكن كافياً لتعزيتي وتعزيتهم سيل الكلام الذي قلناهُ وكل الحُرُوف التي سطرناها، والمشاعر المبثُوثة عبر ذلك الكلام، وتلك الحروف للتخفيف من مُصاب الفقد المشترك: العظيم!
ولكن، لم يتسنّ لي لأسباب ماليّة وإداريّة تخص بلد المهجر: العودة للسودان! …
ولا حتّى لأربعٍ وعشرين ثانية! …
وفي السنة التي تلت وفاتَها، وبتاريخ مُقارب لذكراها السنويَّة، انتقل أبي، هو الآخر، للدار الآخرة، وهو في موفُور صحته وكامل عافيته، انتقل بلا مقدمات واستجاب لنداء القدر: فمات! …
وحزنتُ… وتفجَّرتْ، بعقلي، عشراتُ الأسئلة، عن: جدوَى الحياة، ومغزاها؟
وكُنه الموت!؟…
الموتُ، ذلك: الحاضِر الغائِب، الذي: (لا قانُون لهُ) … وهدأت موجه تلك الأسئلة الكونيّة وبرد غليل المشاعر وأنا أحتضن أفراد الأسرة، من: أخواتي وشقيقي أحمد، وبعضُ الأهل والأصدقاء يتقدَّمهم طارقٌ، باكياً قلباً وجفنًا! … في باحة المطار، مقابل صالة وصول الرحلات الدوليّة.
وتبادل الرجال الفاتحة، بينما أجهشت أخواتي بالبُكاء، هُناك في العراء، وفاضت دموعُهنسخينةٌ، وحذت حذوهن المرافقاتُ من نساءِ الأهل والأقارب وأسر الأصدقاء، بعضهن بدموعٍ حقيقيّةٍ مالحةٍ، والأخريات بدموع تماسيح : وجب ذرفها، على سبيل المُجاملة، مع بعض النواح المُصطنع!
ولكن قالت إحدى أخواتي لي بيقين:
تصدِّق يا ياسر! … يمكنني تصنيفُ الحقيقي من الزائف، لبكاءِ: ألفُ امرأة!
وانتهت مراسم استقبالي الحزينة في ثلاثة يوم، كان عليَّ، بعدها، أن أفي ببعضِ الواجباتِ الاجتماعية، على رأسها: الفواتح، والتهاني بالأعراس… والأفراح، التي تمَّت في سنوات غيابي…
وبعدها تلبية دعوات الأهل على وجبات تراءت لي كالحلم من حيثُ الطعم وكثرة الأيادي…أمّا لمّات من تبقى من الأصدقاء، فقد كانت تتم بالأماسي، وتغنيتُ فيها، أنا، مُتمنِّعاً، بعد تحانيس: أُغنية سَفرِ العُمُرْ…
ورأيتني أغتسل من أحزاني رويداً… رويداً، وأمتليء بنفحاتٍ طيبة من الأنس الأصيل، والرفقة البهيجة!
ودعاني طارق لحفل زواج عند أقاربه، ولبيت الدعوة، ورأيت الناس الفرحين يرقصُون ويغنُّون ويضحكُون ويتسامرُون، كما كنتُ أراهم في الزمان الغابر، دائماً، وانتشيت، ومن بين حنايا النشوة، لمحتها: لميس! كما أفادنِي طارقٌ: لاحقاً…
ولم يتح لي أن ألتقيها قبل السفر، إذ كان عليَّ أن أغادر الوطن بعد يومين من ذلك الحفل، هذه المرّة دون توجس من السفر ودون خوف من فقد والديّ، ودون أن تكون هناك رسوم مُغادرة، ودون أن يتخلّف طارقٌ عن وداعِي!
وظيفتي الحاليّة تُتيحُ لي الاقتراض المصرفِي لشراء منزل، وسط المدينة، ولكن، هل أخطُو باتجاه الاستقرار النهائي بالمهجر؟ لا سيما وإني أحملُ، الآن، جواز سفر البلد المضيف… أم أشرع في التأسيس للعودة متى ما انصلحالحال في السودان؟ بشراء قطعة أرض في الأطراف، مثلاً!
وضبطتُ نفسي: منتظراً صلاح الأحوال!
أبعد عن الشــــر، وغنِّيلُو!
ورجَّحت موافقة (لميس) على طلبي الزواج منها، رجَّحت كفّة التخطيطِ، طويل الأمـــــــد، للاستقرار هُنا، في الغربة، حيثُ المشاركة تجعلنا نشعربإنسانيتنا… أو كما قيل!
كما أن رأي طارق كان موافقاً للاستقرار خارج السودان، ما دمت هانئاً هناك، لأنه:
لا بشائر تلوُح في الأفق لتحدِّث عن تحسن، قريب، في الحالة عموم… وعلى بالطلاق، لميس ذاتها ما دارتك إلا لأنَّك ستتيح لها مغادرة البلد…
واختتم الرسالة بتعليقٍ ساخرٍ، يُفهم على غير المقصد، أورد فيه مقطعاً من أُغنية خالدة للموسيقار (أحمد الجابري)، أظنها أغنية (حِكْمَة):
حدي يشعُر بالسعادة… يمشِي يختار البُعاد؟؟؟
وما انصرم العام، إلا ودخلت لميس البيت المشترى بالأقساط البنكيّة المريحة… ملكةً متوجةً على قلبي، وسيِّدةً، مطلقة الصلاحيات، له… كنت قد استقبلتها، مع والدتها وإحدى أخواتِها، في المطار… وبرفقتي أفراد شلة أنس الأمسيات…
ولفتنا نظر الخواجات، أنا بالعمة والجلابية ناصعتي البياض، وهي بتوب بألوان القرمصيص، وانتشرت روائحنا العربيدة في أنحاء صالةالمطار، مزيج مذهل من رائحة البخُور والدلكة والخُمرة… وهَجَّجْنا في الصالة، وفي الطريق، إلى الدار… ثمّ في الدار نفسها وغنينا، ومَرحنا، حتَّى: الساعاتِ الأُولى من الفجر…
واندهشت لميسٌ وهي تستمع لغنائي: (سفر العمر!) … وطلبت مِنِّي أن أُعيد ترديدهاعلى مسامعِها، وأُغنيها لها، لوحدِها، بعد أن اختلينا… وانصرف الجميع إلى حالِ سبيله!
وتماهيتُ مع حياتِي، هنا، وملأت عليَّ لميسٌ، ومن بعدها طفليها الملائكيين حياتي، ولم أشعر بوقع حوافر الزمن، ودقّات ساعاته… إلا عندما صارت لميس، تطرق وبشدة، موضوع العوْدة إلى أرضِ النيلين، وبعد أن أكملَ طفلُنا الثاني: عامَهُ الأوَّل من العُمــــــــر!
ومع أن عملي كان رتيباً، وساعاته طويلة، إلا أن لميس قد استطاعت أن تملأ نهارات الإجازات والأماسي الباكرة من أيّام العمل، بزيارات وبرامج مشتركة مع أسر روّاد الأماسي… وملتُ، أنا، لتلك البرامج العائليّة أكثر، على عكس أغلب أصدقاء الغُربة، الذين كانوا يفضِّلُون أن يتنادمُوا ويبتهجُوا حتى الساعاتِ الأُولى من الفجر!
وصارت وجباتنا، وأغراضنا، ومشترياتنا كلها، تحملُ: نفحةً من رائحة طمي النيلين وعبيرها… وهدَّأ ذلك من روعي، وجعل إحساسيبالتغرُّب، والضيم يخفُت…
ولكن لميس كانت تحمل همًّا من نوع خاص: هم نشأة وترعرع الطفلين! …
كان احتمال أن يتنصرا، أو على الأقل ينتميا للعالم الأول، يُخيفها… وكانت كلمّا تطرَّقت أُمهات البنات اللائي ولجن، أو سيلجن: سن المراهقة لتناقُضهِنَّ وتوجسهِنَّ منمُجتمع المِهجر ومفاهيمه تُخيفها، لا سيما موقف المُجتمع من الجنس… ومن الإسلام، وكانت تبثُّني لواعجَها وهُمومها بطريقةٍ ساخرةٍ وصريحة:
هسه، بتَّك دي، بعد عشرة ولا خمستاشر سنة: تجيب ليك صاحبا في البيت؟
ولم أكن أملك إجابات وتطمينات: واضحة، ويقينيّة، عن: مدىاحتمالات نجاة بنتي الكُبرى (لَمَــــا) من تأثير المجتمع وسطوة مفاهيمه، فيما بعد؟ … عليها وعلى إخوانها ورفِيقاتِها… لا سيما وأن حريتها واستقلالها، عنّا أنا وأمها، حق دستوري يكفله لها القانون، ويرعاهُ المجتمع…
ولكني كنت على سبيل المخارجة وقفل باب الحوار السابق لزمانِهِ بسُدُس قرنٍ من الزمان، كنتُ أُشير إلى ما نسمع عنه، من: فساد طال نواحيَ شتى من الحياة في أرض الوطن، وظواهر، مطلة برؤوسها، مثل داعِش وما يَدْعشُون‘!؟

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!