الكَبْــــرِيتَة
بقلم/ عادل سيد أحمد
أثناء استعدادي لاستئناف المُذاكرة، بعد صلاةِ المغرب، ندهَت عليَّ الحاجة، بنبرةٍ آمرةٍ مَشُوبةٍ بالحُنُق:
– يا ولد! أنا ما قُلت أمشي الدُّكان جيب كبريت؟ …
– ما قُلنا ليك، ألف مرّة، ح نمش!
كان ردِّي حانقاً، ووعدي كان كاذباً…
كنتُ أعتقد أن الدُّكان سيخصمُ منِّي زمناً غالياً، لا سيما وصباح الغد هو موعد وتأريخ ورقة إمتحان الفيزياء في الشهادة السودانيّة، كما وأنَّ هُناك غيري، من هُو أنسب، لأداء الواجب والقيام بالمشوار…
ويبدُو أن الحاجة كانت مرهقةٌ جداً، بدليل أنها لم تُكرر الأمر، وعندما اقتربت منها لأتأكَّد وأرى إن كانت ما تزالُ يقظةً؟ وجدتُها تقِطُّ في سابعِ نومة…
وسرحتُ مع نيوتن وباسكال، والسرعة والمسافة والزمن، ودلفتُ إلى المغنطيسية والكهربيّة، وأحسستُ بالرضا عن أدائي، بل أيقنتُ أنني صرت عالماً، أتفوق بلا شك على نيوتن وأضرابِه، لأنَّ المعرفة المُتاحة لي آنذاك كانت أكبر عشرات المرّات عمّا أُتيح لهم من علم…
وحانت ساعةُ النوم، وقمتُ بعمل كلَّ الطُقُوس اللازمة لوداع اليقظة والوعي، وتبقَّى لي، فقط: إشعال سيجارة النوم!
وكنتُ أدخرُ لها عودَ ثقابٍ يتيم…
ولكن، ما أن أشعلتُهُ، حتى: إلتوى لهبه، وتمايل، وذهب مع الريح…
كانت الساعة، عندئذٍ، تُشيرُ إلى الثانيّة صباحاً، إذن: فقد أقفلت جميع الدكاكين… وذهب أندادي روّاد السمر بجوار العمُود إلى بيوتهم… ونام الجيران! وأصابني بالكسل، نبيحُ الكلاب التي أخافُ منها:
– الخوف الواحد ده!
وحاولتُ أن أشعل ناراً بطريقة أجدادنا القُدماء: ففشلتُ فشلاً ذريعاً….
وظلت السيجارةُ نيئةً بين أصابعي، إلى إن دقَّت الساعةُ الخامِسة، تسخر من خرمتي وعجزِي…
وحان وقتُ عملَ الشاي، الذي كُنت في حوجةٍ ماسّةٍ لهُ، دون أن يكون لديَّ زمن كافٍ للانتظار… وسألتني الحاجة فور استيقاظها على رنين المُنبه:
– جِبتَ الكبريت؟
– لأ!
– كان كَدِي، تشرب عصير، أو من موية الزير الزرقا دي!
كان العصيرُ، صُنع يديها لذيذاً، ولكنه لن يكُون شاياً، أبداً، ولن يحلَّ محلَهُ….
ولم أستطع إشعالَ سيجارتي إلا عند السادسة، عندما وصلتُ إلى المدرسة، ووجدتُ قِدر الفُول، أمام دُكَّان عم أسماعيل، يغلي فوق كوْمةٍ من الجمرِ المُلتهب… كومةٌ كانت تكفي لإشعالِ حربٍ أهليّة! …
وانتفضتُ وأنا أسمع (عُمَراً)، وهو يقُول في كلامِهِ مع أصدقائه، بجواري:
– النارُ مِن مُستَصغرِ الشَّرَرِ!
ولم أعرف سبب قولِه بيت الشعر الخالد أو مناسبته.
ولمّا خرجت من الامتحان الأخير، كان يتملَّكُني الفُضُول، ويحرقني السُؤال: ولكني لم أجِدَهُ ليُجِيب!
وها قد تذكَّرتُ الحادثةَ بعد مُرورِ أربعةٍ وثلاثين عاماً، في يوم عيد ميلادي الثاني والخمسين… عندما هممتُ بإطفاءِ الشمعةِ الرمزيَّة ذات اللّهبِ المُذهب، التي انغمست في الكيْكة وغاصتْفيها، عَمُوديّة، إلى المُنتصَف!